
بقلم / لـواء رُكن (م) د. يونس محمود محمد
(رئيس تحرير صحيفة القوات المسلحة الاسبق)
أعوام الأحزان هذه أثقلت على القلوب وما غادرت فيها موضعًا إلّا وفيه لوعةُ فقد، وعوار لاسع الوجع، ودمعًا مُرًّا سيّالًا عزّ من يواسيه، وفوق كُل أثر محور كيّ لم تكلأه الأيام يتجدّد محورٌ جديدٌ من نار الحرب والمؤامرة التي تنفخ فيها كير عالمية.
بالأمس أظلمت الدُنيا بسحابات حزنٍ عميق إجتاح كُل وجدان الأمة السودانية بنبأ إستشهاد المجاهد الشاب صاحب الهمّة مهنّد إبراهيم فضل، أمين الفكر والدعوة بالحركة الإسلامية السودانية، الذي عرفه الشعب وألفه وتفاءل به حيثُ كان يُطلُّ من بين ثنايا نقع المعارك في المدرّعات باسمًا في وجه الردى، تستمدُّ منه الجبال الراسيات ثباتها، يفتر عن ( *فلجة* ) تميّزه مع عينين ثاقبتين كأنهما إطلالةٌ على السماء الفسيح، تنفذان إلى ما وراء المنظور المجرّد وإحاطة الجنجويد بأسوار الدروع، وجمعهم وتراكمهم من كُل حدبٍ وصوب، وقلوب الناس لها وجيب في الحناجر، والأبصار زائغة من هول المتربص القادم، والآذان معلّقة هناك في المدرعات تتنصت، وتسترقُ السمع علّها تظفر ببشرى، فيطلُّ المهنّد سيفًا من قراب التاريخ بوجهه المتبسّم الصارم يبشّر الناس مستهينًا بالجنجويد، والقوم ما بين مصدّقٍ ومكذّب من أين لهذا الفتى كُل هذه الثقّة والثبات!! في زيّه العسكري البسيط ومتاعه مصحفٌ ومسبحة ومسواك وبندقية في إختزالٍ بليغ لهذه الحياة الدنيا التي تملص مهنّد وإخوانه من شراكها، وتخفّفوا من أعبائها فما عاد الطينُ يثقلهم ولا الزخارف تغويهم، سلكوا في درب الجهاد مجيبين كل هيئعة، بمخزونٍ من العزم لا ينفد كأنّه وقودٌ نووي يتفاعل في دواخلهم النقية.
نعم إنتصرت المدرعّات، وصدقت نبؤات مهند، وأصبح رسولًا صادقًا لدى الناس، وفألُ خيرٍ يزفّ أنباء الإنتصارات، غير أنه لم يضع السلاح فالحربُ في منظوره ليست في الخرطوم العاصمة، وإنّما هي في كُل أرضٍ وطأتها أقدام الجنجويد النجسة، ولذلك طوى الفلا طيًّا لكُردفان بأكثر من ٧٥٠ كلم
يزاحم صف الجهاد الأول في مواجهات غرب الأُبيّض في مناطق أم صميمة وأبو قعود ذودًا عن الأُبيّض بذات همّة الدفع في الذود عن الخرطوم والجزيرة وسنار والدندر التي شهد كل معاركها وساهم مع إخوته شباب الحركة الإسلامية والسودان، ساهم في النصر الكبير على الجنجويد القتلة المجرمين، وأرغموهم على الهروب إلى صياصيهم في كُردفان ودارفور ومن ثم إنطلقوا في مطاردتهم وملاحقتهم بغرض إستئصالهم من هذه البلاد.
وهناك في أبو قعود تنتهي مسيرة الحياة الدنيا ليعرج مهند شهيدًا بإذن ربه لينال مقامه العلي وجائزته الكُبرى عند الله الذي لا يخلف الميعاد، حيًّا عند ربه يأتيه رزقه رغدًا، هانئًا منعمًا، ملتحقًا بزمر الشهداء من إخوته الذين حموا بيضة الدين ان تكسرها فؤوس مغول العصر، وحقد دويلة الشر، وتربص الصهيونية بمشروع السودان الوطني.
مضى مهنّد إلى ربه شهيدًا بعدما أشهد الناس على خفايا الحرب وأسرار المؤامرة، وبعدما ضرب لهم المثل الشرود في الندى والعطاء الجزيل، وأراهم البأس في وجه العدوان الذي إنكسر بعون الله طاعةً لمقدرات القتال في الجيش السوداني ومعيته الساندة، سيما أخوان مهنّد الذين تحملهم خيول الريح وعزائم الأبطال.
الأمس كان موحشًا بغياب وجه مهنّد مثل ليالي المحاق بغياب القمر، ومثل غياب البشير لمن ينتظر أنباء من يُحب، فقد ترك غيابه فراغًا في كُل فؤاد وطني سليم، وكان إرتقاؤه شهيدًا حدثًا واسع الأصداء، كثير التداول، عميق التفاعل ومفعمًا بالعواطف، لأن مهنّد ليس فقط نفرًا مجاهد بقدر ما هو رمز بالغ الأثر، صنديد عنيد خصومة الأعداء، معطاء ( *أروش* ) العطاء في هذه الملاحقة والإلحاح في خوض المعارك من الخرطوم إلى حيثُ مرقده ( *المزار* ) الذي سيكون مثل قباب الصالحين، ومثاوي الكبار، وعلامات صنّاع التاريخ.
هُنا يرقدُ المجاهد الثائر الحُرّ مهنّد إبراهيم فضل
ويا لهُ من مزار.
اللهم تقبّله عندك شهيدًا ، وألحقه بإخوته زمر الشهداء
وأجعل اللهم دمه زيت مصباح الحُرية والخلاص من بغي الجنجويد والقحاطة.
إنّا لله وإنّا إليه راجعون.
وإنّا عليك يا مهنّد والله لمحزونون.
*نصرٌ من الله وفتحٌ قريب*
كما كان يردّد الشهيد.